يوميات معلم في الأرياف الحلقة الخامسة
الواحدة بعد منتصف الليل
يوميات معلم في الأرياف (الحلقة 5)
العلاج في سيلبابي عاصمة الولاية
اشتد علي المرض فقررت الذهاب الى سيلبابي للعلاج. لم يكن في القرية وسيلة نقل مناسبة، فركبت على حمار (سيارة اسعاف كما يمازحني احد الأصدقاء) لكي أصل قرية انخيلة حيث تمر السيارة مع الصباح.
اخذ الخليفة شيخ القرية بأذن الحمار والمختار يسير خلفه وانا بالكاد استطيع الثبات عليه وكنت اتقيأ على لباسي وعلى ظهر الحمار احيانا والمختار المدير يسير خلف الحمار ويساعدني حتى لا اسقط.
قبل ان ننطلق تجمع امام غرفتنا مجموعة من الرجال والنساء والتلاميذ وكان الوقت حوالي الساعة الثالثة ظهرا، وكانوا يسألون الله لي الشفاء وبعضهم يطلب منى العودة اليهم وعدم مغادرتهم وانا جالس فوق الحمار واقول لهم: سأعود ان شاء الله.
انطلقنا نشق الحقول والمزارع وبعد صلاة العصر تقريبا وصلنا قرية انخيلة، كانت الرحلة متعبة وطويلة وكدت اسقط عدة مرات من فوق الحمار…….وصلنا القرية ونزلنا عند معلم القرية لا اتذكر اسمه ولاحتى ملامح وجهه رغم انه استقبلنا بالترحيب واحسن ضيافتنا، قال لنا السيارة تمر قادمة من قرية عر حوالي الثامنة صباحا. بت تلك الليلة في ظروف صعبة، وفي الصباح وصلت السيارة وركبنا وسط الخراف والكباش والدجاج والركاب ايضا……وصلت الى مدينة سيلبابي ولا اعرف كيف وصلنا الى منزل مضيفي في المدينة قائد الشرطة يومها، لا اتذكر هل اوصلتنا السيارة التي جئنا فيها ام سيارة اجرة…..على كل حال وصلت والمختار الى المنزل وخرج صاحب البيت فلما رآني وانا انزل من السيارة في حالة رثة وأهادى بين المختار وصاحب السيارة، صاح متفاجئا المصطفي، ادخلوني المنزل وقال موجها الي الكلام ومعاتبا: ألم أقل لك ان تلك المنطقة صعبة ولم تسمع كلامي.
ذبح شاة في الحال واكرم ضيافتنا. وبعد صلاة الظهر عاودت الحمى فحملني الى المستشفى الصيني حسب ما اعتقد وعلقوا لي حقنة، بعد نهايتها حملني الى بيت أحد الإخوة وهو الأخ الفاضل الطيب محمد محمود ولد أمحيميد طبيب ضابط صف في الجيش الوطني، وفي بيته العامر كان هو وزوجته الطيبة الحنون حواء يعتنيان بي ويشرفان على علاجي على أحسن وجه جزاهما الله خيرا.
بقيت عندهم حوالي اسبوعين حتى تعافيت. كان محمد محمود يسرد علي قصص المعلمين في المنطقة في ثوب نكت، واتذكر مماحكى لي: ان معلما قال لصديقه سنرسل رسالة للمدير نطلب التحويل من منطقة انيامان بعد ان عملنا فيها زمنا طويلا. فكتبا طلبا موجها للمدير هذا نصه: نحنان المعلمان في أنيامان نريدان التحويلان.
فرد عليهما المفتش : أنتمان المعلمان في أنيامان مفصولان نهائيان….
في فترة العلاج في سيلبابي قررت مغادرة الولاية نهائيا والعودة الى أنواكشوط، فسافرت وكنت قد تركت صمصونتي في القرية ومعها لوح لكتابة القرآن الكريم. وصلت مسقط رأسي وبقيت فيه للعلاج مدة شهر مع أسرتي.
كان يوم وصولي سيلبابي المدينة هو آخر لقاء لي مع المدير المختار……قبل ان ألتقيه 10 سنوات بعد ذلك صدفة قرب وزارة التعليم الأساسي وانا عائد من فرنسا لقضاء العطلة، عرفني ولم اعرفه، بادرني بالسلام وعرفني على نفسه فعانقته بحرارة وبدأت أسأله عن أحواله….. وقبل ان نفترق طالبني بتعويضه المبلغ الذي صرف لعلاجي في القرية، سألته عن المبلغ لأنني لا أعرفه فقال لي: 2500 أوقية، 1000 أوقية من جيبي غير مهمة واما 1500 من فضة الكفالة المدرسية وهي التي اريد. ضحكت وقلت له: بل سأعطيك المبلغ كله وازيد بارك الله فيك.
في أنواكشوط اتصلت بأحد بارونات السياسة من اجل التحويل، وهي الطريقة الوحيدة يومها التي يمكن ان يتم عن طريقها تحويلك من ولاية الى اخري حتى ولو كان وسط السنة الدراسية وحتي لو أدى الأمر إلى ترك قسم بلا معلم، فالسياسة أفسدت التعليم حيث كانت تفتح المدارس ويتم تحويل المعلمين ارضاء للساسة ونفوذهم.
دخلت على الرجل في بيته بعد ايام فقال لي: تحويلك في جيبي واخرج ورقة مكتوب عليها بخط اليد: تم تحويل المعلم التالي من ولاية كيديماغا الى ولاية لبراكنة.
أخذت الورقة وانا لا اصدق، فقد كانت نصف ورقة دون ختم ولا شيء يوحي بالرسمية ولا الجدية. سلمت الورقة للمدير الجهوي المعني فتسلمها وطبق مافيها.
في هذه الفترة اطلعت على راتبي حيث كان 19 الف أوقية فقط.
أكملت السنة الدراسية في مدينة بوكى في المدرسة رقم 3, تحت إدارة المرحوم صال، قبل ان يتم تحويلي السنة الموالية مديرا لمدرسة تحت خيمة في البادية نطويها ونرحل مع لفريگ كلما ارتحل………
يتواصل