عن الصور الأخرى لمشروع “قانون الرموز”!

نجح نواب المعارضة في تأجيل نقاش مشروع “قانون الرموز” ليوم كامل، ولكن ـ وهذه هي المفارقة التي تستحق أن نتوقف معها ـ فإن المستفيد الأول من هذا التأجيل هم نواب الأغلبية.

إن هذا التأجيل سيتيح للكثيرين الاطلاع على مشروع القانون في نسخته المعدلة، والتي تم تسريبها إلى مواقع التواصل الاجتماعي تزامنا مع التأجيل، ومن اطلع على النسخة المعدلة من مشروع القانون سيجد أنها تختلف كثيرا عن صورة السيئة العالقة في أذهان الكثير من نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي عن مشروع القانون، وهي صورة تشكلت نتيجة للحملة القوية التي خاضها منتقدو مشروع القانون، وذلك في ظل غياب تام للطرف الآخر، أي الأغلبية التي تتبنى مشروع القانون، وتسعى إلى تمريره.

في بعض الأحيان قد يكون ما يَعْلق في أذهان الناس أقوى من الحقيقة، ولذا فإنه في النقاشات العامة لا يكفي أن تمتلك الحقيقة، بل لابد لك أن تعمل من أجل إقناع الآخرين بأنك أنتَ هو من يمتلك الحقيقة.

إن من اطلع على النسخة المعدلة من مشروع قانون الرموز، والتي ستعرض غدا الثلاثاء (9 نوفمبر) على النواب لمناقشتها والتصويت عليها سيجد أنها ليست بذلك السوء الذي كان يتم الحديث عنه خلال الفترة الماضية.

إن السؤال الذي يمكن أن يطرح هنا هو : كيف تشكلت هذه الفجوة الكبيرة جدا بين حقيقة مشروع القانون، وصورته التي رسمت في أذهان المواطنين؟

إن الإجابة على هذا السؤال تفترض علينا أن ندفع بمعلومتين سريعتين:

الأولى : أن كل ما يأتي من السلطة هو أصلا محل شك وريبة من طرف المواطن، خاصة عندما يتعلق الأمر بحرية التعبير.

الثانية : أن الذراع الإعلامي والسياسي للنظام يعاني من عجز واضح، وأنه لا يتحرك في أغلب الأحيان إلا في وقت متأخر جدا.

لقد ظل الذراع السياسي والإعلامي للنظام غائبا بشكل كامل عن النقاشات الدائرة حول مشروع القانون خلال الأشهر الماضية، وترك الساحة لمنتقدي مشروع القانون إلى أن ترسخت صورة سيئة جدا عن مشروع القانون لدى الرأي العام، وفي أذهان المواطنين، حينها فقط قررت الحكومة وأغلبيتها الداعمة أن تتحرك لتصحيح تلك الصورة السيئة!

إن النسخة التي ستعرض على النقاش والتصويت يوم الثلاثاء 9 نوفمبر تم إعدادها خلال الدورة الماضية (27 يوليو 2021)، أي أنها كانت موجودة منذ أشهر، ومع ذلك فلم تتحدث عنها الحكومة والأغلبية إلا خلال الأربع والعشرين ساعة الأخيرة، وكانت البداية مع منشور لمعالي وزير الثقافة بين فيه أن مشروع القانون جاء لحماية الحريات من التمييع، بعد ذلك  نشر النائب جمال اليدالي (رئيس محكمة العدل السامية) توضيحا للرأي العام استعرض فيه مواد مشروع القانون التي تترتب عليها عقوبات. ثم أجرى من بعد ذلك النائب يعقوب ولد أمين رئيس حزب التحالف الوطني مقابلة مع موقع زهرة شنقيط أكد فيها أن مشروع القانون يشكل ضمانا للوحدة الوطنية وترقية للديمقراطية وحماية للمؤسسات.

لقد كان من الواضح جدا أن الحكومة وأغلبيتها الداعمة قررتا التحرك في اللحظات الأخيرة لتحسين صورة مشروع القانون الذي ساءت سمعته كثيرا خلال الفترة الماضية.

السؤال الذي يُمكن أن يُطرح هنا هو : لماذا لم يكتب معالي الوزير عن مشروع القانون خلال الفترة الماضية؟ ولماذا لم ينشر النائب جمال ولد اليدالي توضيحا عن المشروع خلال تلك الفترة؟ ولماذا لم يجر النائب يعقوب ولد أمين مقابلة حول مشروع القانون قبل فجر يوم الاثنين؟

أشهر عديدة مرت على إعداد هذه النسخة من مشروع القانون، ولم تتحدث عنها الأغلبية بشطر كلمة، وذلك في وقت كان يصر فيه بعض منتقدي المشروع على نشر النسخة القديمة التي تم تعديلها منذ أشهر، وذلك على أساس أنها هي النسخة التي سيتم نقاشها خلال الدورة الحالية!

لقد كانت كلفة هذا التأخر كبيرة جدا، فهل سيأخذ النظام درسا من مشروع قانون الرموز، فيعلم بأن توقيت أي تحرك إعلامي وسياسي يجب أن يكون مع بداية تشكل رأي عام حول ملف أو موضوع معين، لا مع نهاية تشكل ذلك الرأي، كما حدث الآن مع مشروع قانون الرموز؟

بكلمة واحدة : هل سيدرك النظام أن التحرك الإعلامي والسياسي الناجح هو ذلك “التحرك ألاستباقي المدروس”، وأن ردود الأفعال الإعلامية والسياسية قد تكون ضعيفة التأثير والأثر؟

نعم لقد تحسنت صورة مشروع القانون خلال الساعات الأخيرة، والسبب في ذلك يعود إلى أن أغلب الذين اطلعوا على نصه لم يجدوه بذلك السوء الذي كان يتحدث به بعض نواب المعارضة وأحزابها خلال الأشهر الماضية.

عن الصورة الحقيقية لمشروع قانون الرموز

كثيرا ما تضيع الحقيقة في ظل التجاذبات السياسية، وحقيقة مشروع هذا القانون الذي أثار جدلا كبيرا يمكن تلخيصها في النقاط التالية:

1ـ كل العقوبات المنصوص عليها في مشروع قانون الرموز كانت موجودة أو موجود ما هو أشد منها في قوانين أخرى باستثناء العقوبات المتعلقة بالإساءة إلى العلم والنشيد، فهذه لم تكن موجودة من قبل مشروع القانون هذا..هذه الحقيقة يحتج بها نواب المعارضة ونواب الأغلبية في وقت واحد. فنواب المعارضة يقولون لنواب الأغلبية لماذا تقدمون مشروع قانون جديد لم يأت بجديد، ونواب الأغلبية يقولون لنواب المعارضة لماذا تعترضون أنتم على مشروع قانون لم يأت بجديد؟

2ـ لم يتقدم نواب المعارضة بمقترحات تعديل للجنة باستثناء النائب العيد ولد محمدن الذي اقترح أن يقتصر مشروع القانون على العلم والنشيد اللذين لا توجد في القوانين عقوبة محددة ضد من أساء إليهما، مع مطالبته في مقترح التعديل بإلغاء كل الأمور الأخرى في مشروع القانون والتي كانت توجد لها عقوبات منصوصة من قبل مشروع القانون؛

3 ـ لم تكن هناك عقوبات في القانون خاصة بالإساءة إلى شخص الجمهورية، فقد كان مشمولا ضمن الوكلاء العموميين. في النسخة المعدلة من المشروع تم ذكر شخص رئيس الجمهورية، ولكن كان ذلك في نفس المقام الذي تم فيه ذكر الإساءة إلى المسؤولين العموميين. تقول الفقرة الثانية من المادة الثالثة من مشروع القانون :”يعتبر مساسا متعمدا بالحياة الشخصية كل تجريح أو إهانة أو سب لشخص رئيس الجمهورية أو إلي مسؤول عمومي يتجاوز أفعاله وقراراته التسييرية إلى ذاته وحياته الشخصية.”

4ـ حقيقة الأمر هي أن المعارضة تريد سحب مشروع القانون لا تعديله، والأغلبية تصرُّ على تمريره.لا تمتلك المعارضة لرفض مشروع القانون إلا حجة وجيهة واحدة وهي أن هناك عبارات عامة في مشروع القانون يمكن استغلالها بصورة سيئة، ولا تمتلك الأغلبية إلا حجة وجيهة واحدة وهي أنه في ظل هذا الانفلات اللفظي الذي تشهده البلاد فإن هناك حاجة ماسة لإصدار قانون يجمع كل العقوبات التي كانت مشتتة في القانون الجنائي وفي قوانين أخرى في قانون واحد سمته :”حماية الرموز الوطنية وتجريم المساس بهيبة الدولة وشرف المواطن “.

5ـ ما سيناقش يوم الثلاثاء 9 نوفمبر هو تقرير اللجنة، وليست النسخة الأصلية من المشروع، والتي ما زال يتحدث عنها بعض النواب، فقد جاء في المادة 103 من النظام الداخلي للجمعية الوطنية : ” يدور نقاش مشاريع ومقترحات القوانين ومقترحات التوصيات حول نص مقدم من قبل اللجنة المختصة”.

6 ـ لا يشكل مشروع القانون انتكاسة لحرية التعبير كما تُحاول المعارضة أن تصوره، وليس بكل هذه الأهمية الاستعجالية التي تتحدث عنها الأغلبية.

7 ـ لم يكن النقاش الدائر حول مشروع القانون نقاشا مهنيا، بل كان نقاشا سياسيا بحتا، وقد كسبته المعارضة خلال أشهر كاملة، وبدأت الأغلبية تكسبه خلال الساعات الأخيرة.  

حفظ الله موريتانيا…

زر الذهاب إلى الأعلى