يومَ «انبطحنا» في مدرسة العميد أبّاه ولد السالك

نحن، محاربو مهنة المتاعب، أيام كانت مهنة متاعب فعلا، لاحظّ لنا من علوم الصحافة، كانت هنالك مدارس تجريبية أشهرها مدرستا الأيقونة حبيب ولد محفوظ، والعميد أباه ولد السالك حفظه الله.

كانت الأولى مدرسةً نضالية بالدرجة الأولى، وقلعةً من قلاع السخط على نظام فاسد، لذلك كانت “القلم” هدفاً دائماً لضربات وزارة الداخلية وسلاحها الفتاك “المادة 11”.

كانت الموارد شحيحة، ولم يُمَنّ أيٌ منا نفسه بالحصول على مرتبه كاملا نهاية الشهر.. يستوي في ذلك حبيب، وفطمة منت عبد الوهاب، و Ould Omeïr Mohamed Fall  و Hindou Mint Ainina و Mohd Ould Ahd Meiddah و الحسين بن محنض و Abdoulaye M. Bâ Bâ و Mohamed Mahmoud Bakar  وولد سيدي ميله، وعيسى ولد هالي، و Ba Djibril Ngawa

عن نفسي لم أكن أعرف كم يبلغ مرتبي الشهري، كل ما أعرفه أنني عضو في جماعة مناضلة بالقلم، مؤتمنة على الحقوق، حتى وإن كنتُ أصغرَها سناً وأقلّها خبرة وتقديراً للعواقب، كنتُ ” مراهقي إديقب المجنون” كما يصفني الغالي حبيب.

أتذكر هذه التسمية الجميلة عند كل لقاء بالأخت هند، فهي حريصة دائماً على مخاطبتي بها، حتى في لقائي بها إبان الحملة الرئاسية الفارطة، وإن كنتُ لاحظتُ أنها حذفت لفظة “المجنون” ربما لإقناعي بأني صرتُ “كهلاً” وهو ما لن أقبله أبداً..

لم تُثننا الغارة التي شنّتها مجموعة قبلية على مكاتب ” القلم” عن الخط التحريري التحرري الذي رسمته الجماعة.. تكبدنا فعلاً فيها خسائر فادحة: كسروا كل الكومبيوترات، أعاثوا فسادا في المكاتب، لسبب تافهٍ، كنتُ جباناً ذلك اليوم وأنا أشاهد أفاتو منت الميداح( موظفة بسكرتيريا الجريدة) وهيّ تنهيهم عن فعلتهم..  ربما لم يكونوا ليقدموا على هذا الجرم البربري لو لم يعلموا علم اليقين أن كل من يلحقُ الضرر بجماعة حبيب سيقطف ثمار ذلك عند “معاوية الخير”.

لن تصدقوا أنّ “القلم” لم ترفع قضية ضد المعتدين، وأن لا قضاء ساعتها يمكن أن يستقبل تظلماً من كوكبة الصحفيين “أعداء الوطن والمتآمرين مع الخارج”.

قبل ذلك وبعده تتالت مصادرة الجريدة، ولا أمَلَ في حصولي أنا وسيدي ميله على ثمن “ميْشْ من شكاريت” أو  تذكرة الباص، في أيام المصادرة، إذ لن تُباع نُسخ طبعة ذلك الأسبوع، وعلينا الانتظار إلى الأسبوع القادم، وبشرط أن تكون زاوية حبيب “موريتانيد” مقبولة هناك في القصر الرئاسي.

في العام  1996 استدعاني أخي محمد لمين ولد أباه ” أمّين” لأخوض معه تجربة أخرى، بعد أن خضنا معاً تجربة “البيان” المريرة، وبشهادة عميدي محمدن انجبنان مامون

يمّمتُ وجهي صوب مدرسة أخرى، هي مدرسة العميد أباه ولد السالك، الذي يختصر توقيعه بـ BOS .. في جريدة “موريتاني نوفيل” كانت الظروفُ مختلفة تماماً، وكنتُ أحسُ أنني بدأتُ “أنْبطحُ” ..

لم أصدق أنني سأتقاضى راتبا شهرياً يصل إلى خمسين ألفَ أوقية، ولا أن أحصلَ على تعويض عن التنقل إلى أي مهمة صحفية.. أصبحت الإداراتُ تعترف ببطاقتي الصحفية الجديدة، وأنا الذي كنتُ أكتم عنها بطاقتي زمن “القلم” خوفاً من تعثر مهمتي.

تعلمتُ من مدرسة اباه ولد السالك BOS أننا معشر الصحفيين “الكتاب بالعربية” بحاجة إلى احترام القارئ، وكثيرا ما تدخل، رغم محدودية درايته باللغة العربية، من أجل تصحيح أخطاء مهنية قاتلة، من قبيل “الشرطة تلقي القبض على قاتل فُلان” .. كانت طريقته لبقة: من أدراكم أن فلاناً هذا هو قاتل فلان هو مجرد مُتهم.. غَطُوا عَيْنيْ صورة المتهم قبل نشرها..

رغم صرامته، كنتُ أضعه دائما في مواقف مضحكة.. في مرة من المرات تضمنت الجريدة تحقيقاً لعميدي وزميلي محمد لمين ولد احظانا، وفي العادة يستخدم ولد احظانا منهجية الترتيب الابجدي (ا، ب، ج، د) فقال لي ابّاه BOS: انتَ شفتْ ذللي اكتب ولد احظانا؟ قلتُ له: تحقيق جيد، قال لي: “جيد يغير اللّفْ البايْ التاي الثاي ماهي هي اللي جاب هوّ” قلتُ له هذا خطأ فادح، فخرجَ BOS من مكتبه مسرعاً إلى الجماعة في قاعة التحرير، أعتقد أن الجماعة كانت تضم الزملاء Mohamed Lemin Mahmoudi وسيدي ولد اسباعي والمختار ولد اشبيه وميمونه Mey Mg منت المغيث Sidi Mohamed Tettah، بالاضافة إلى ولد احظانا ورئيس التحرير محمد الامين ولد اباه.

قال لهم: تمو صحوا ذللي يكتب الأستاذ ولد أحظانا.. اللّفْ البايْ التاي الثاي ماهي اللف الباي اجيم الدلْ”.. ضحكت الجماعة وشرحوا له الترتيب الأبجدي، فعاد إلى مكتبه وهو يضحك ويقول “عدلها فيّا اتفاقه” …

مرة كلفني محمد الامين ولد ابّاه بملف ثقافي صعب عن أدب الكادحين، واستحسنتُ التكليف، فأنا أكثرُ ميلاً إلى الكادحين، ودائما أقول إنني “أحبُ الكادحين ولستُ منهم”.. بدأتُ بالعميد بدرالدين، فغرف لي من ذاكرته، وتلني على مَظَانِ ضالتي، وقابلتُ شخصيات فذة، بعضها لم أكن أعلم له أي دور في الكادحين.. 

استغرق البحث بعض الوقت، فالمراجع معدومة، والكادحون يرفضون نسبة أي نص من أدبهم الجم لقائله، وكان BOS دائما يسألُ أينَ وصلنا؟ وعندما ما قررنا نشر الملف على حلقات، اتفقنا على عنونته بـ “شطحات في أدب الكادحين” فدخل BOS قاعة تصميم الجريدة، ووقعت عيناهُ على العنوان فغضب وقال : لا تكبو بالحسانية  شطحات تنكال الحد يشطح يشحح” فشرحنا له الموضوع فقال عنوِنوه بـ” قراءة في أدب الكادحين”..

وأعتقد أنها كانت أول محاولة جادة لجمع ذلك لتراث الأدبي السياسي الرصين.   

في مدرسة ابّاه ولد السالك، لا يُطلَبُ منك النضال، لذلك كنتُ أعتبرها في بداياتي معها، جريدة رجعية ترعى الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان، ويوماً بعد يوم كان يتأكد لي أن “موريتاني نوفيل” أخطرُ على النظام من كل الصحف، وذلك ما فهمتْه السلطة لاحقاً فبدأت معها نفس مسلسل “تكسير القلم”.

كانت صلاتُ ولد السالك بالدولة كافية لحصوله على المعلومات والملفات الحساسة والمهمة، وكان يوظف تلك الملفات في وقتها، وكانت موريتاني نوفيل أكثر الصحف كشفاً للفساد وللمفسدين.

كان BOS مهنياً.. كانَ عطوفاَ على المظلومين.. كان يؤمن برسالة الصحافة، ويعمل من دون بهرجة أو ضجيج.

تكررت مصادراتُ موريتاني نوفيل إلى درجة أن العميد BOS قرر توقيفها وإلى الأبد.

زر الذهاب إلى الأعلى