الزمن عند المسلمين.. اعتمدوا خط غرينتش وأرخوا أحداثهم بالساعات وصحابي يحدد وصوله المدينة بـ”الساعة الخامسة”

“قابلني ظـُهرًا، وضحىً، وعشيّة”؛ لا يزال استعمال هذه الألفاظ في تحديد الوقت والمواعيد سائدا في أيامنا هذه، ولعل البعض لا يعلم أنها من بقايا الزمن الحضاري الإسلامي، بل منذ أيام العرب الأولى. وإذا كانت تلك المواعيد في تداولها الآن تعني هروبا من الضبط وانفلاتا من الدقة؛ فإنها قديما كانت تحيل على مواعيد محددة وموصولة بتوقيتات معروفة معينة.
فقد عرف العرب الزمن وقدروا الوقت بتقسيمات واضحة، وزادهم الإسلام اتصالا بالمواقيت لضبط عباداتهم ومعاملاتهم، ودوّن مؤرخو الحضارة الإسلامية أحداثها بالساعات والدقائق. وما ذاك إلا لأن الوقت كانت له مكانة عظيمة في التراث العربي والإسلاميّ؛ فما من تكريمٍ يُقالُ في قيمة الوقت أكبرُ من الحديث النبوي الصحيح: “لا تسبّوا الدهر فإنّ الله هو الدهر” (رواه مسلم وفي صحيح البخاري بلفظ مقارب)، وإن كان إطلاق الدهر على الربّ مجازيًّا.
وكان الوقتُ عند العرب بهذه الأهمية قبل الإسلام؛ فقد قال الأمير الصنعانيّ في كتابه ‘التنوير شرح الجامع الصغير‘ عند شرحه للحديث السابق: “العرب كانت إذا نزل بأحدهم مكروه يسبّ الدهر، ويعتقد أن الذي أصابه فِعلُ الدهر، فكأن هذا كاللعن للفاعل، ولا فاعل لكل شيء إلا الله”.
وهذا موافقٌ لما نقله القرآن الكريم عن العرب من أنهم قالوا: “نموتُ ونحيا وما يُهلكنا إلا الدّهرُ” (سورة الجاثية: 24). وإذا كان الإسلام قد جاء بتصحيح معتقد العرب في مسبِّب الأسباب؛ فإنه لم يزد الوقت إلا تعظيمًا واحترامًا، ولذلك قرر في تعاليمه أن أول ما يُسأل عنه المسلم في آخرته: “عن عمره فيمَ أفناه؟” (حديث صحيح أخرجه الترمذيّ وغيره).
ولما كان الوقتُ على هذه المنزلة في ثقافة العرب قبل الإسلام وبعده، كان طبيعيًّا أن يكونوا على درجةٍ من التميّز في التعامل معه، والسبق في طرق تقسيمه وقياسه، والتعبير عن جريانه وتقلباته؛ لكن هل كانوا يحسبون وقتهم كما نفعل الآن؟ يقسمون يومهم وليلتهم أربعًا وعشرين ساعة؟ وهل كان أحدُهم يواعدُ الآخر عند الساعة الخامسة أو السادسة مثلًا؟ وإذا كانوا يفعلون ذلك فكيف كانوا يقيسونه؟ وما هي طريقتُهم في الإخبار به؟ هذا ما تبحثه مقالتُنا هذه مستعرضة أدلته النظرية والتاريخية.

أربعٌ وعشرون ساعة
كانت العربُ تقسّم يومها أربعًا وعشرين ساعةً كما يصنع الناسُ الآن، لكنّها لم تكن ساعاتٍ متساويةً كساعات اليوم، بل كان النهارُ عندهم اثنتيْ عشرة ساعة، والليل اثنتيْ عشرة ساعة، طال أحدهما أو قصر. وبناءً على هذا؛ فقد كانت تطولُ ساعةُ النهار في الصيف –مع طول النهار- حتى تبلغ أكثر من سبعين دقيقة بدقائق اليوم، وفي المقابل تقصرُ ساعةُ الليل إلى أقلّ من خمسين دقيقة، وفي الشتاء يحصلُ العكس، فتتمدد ساعات الليل وتتقلّص ساعات النهار.

ولعلّ أقدم نصّ عربيّ موثّق يذكرُ هذه الساعات هو ما رواه البخاري (ت 256هـ) ومسلم (ت 261هـ) وغيرهما من حديث أبي هريرة (ت 59هـ): “من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرّب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرّب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرّب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرّب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر”.

وقد اختلف الفقهاء في معنى الساعة في هذا الحديث: هل يعني ساعات النهار –التي نتحدّث عنها- أم إنه قصد الساعة بمعنى جزء من الوقت غير معيّن؟ وكان لهم ترجيحات ومناقشات لم يقل أحدٌ خلالها إن هذه الساعات لم تكن معروفةً زمن النبي صلى الله عليه وسلم، بل هم مجمعون على وجودها وعلى العمل بها في ذلك الوقت، لكنهم اختلفوا في مقصد النبيّ صلى الله عليه وسلم.

ثم اختلف الذين رأوا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قصد ساعات النهار المعروفة؛ فقال الإمام النووي (ت 676هـ) -في شرحه لصحيح مسلم- معلقا على هذا الحديث: “واختلف أصحابنا: هل تعيين الساعات من طلوع الفجر أم من طلوع الشمس؟ والأصح عندهم [أنه] من طلوع الفجر”. وقال أيضًا: “ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى الجمعة متصلا بالزوال، وهو بعد انفصال السادسة”.

وذكرُ اثنتي عشرة ساعةً من النهار أو الليل واردٌ في غيره من الحديث، لكنّ ما سبق كان المثال الأشهر والأصحّ، وهو الذي دارت حوله مناقشات الفقهاء التي يمكنُ استشفافُ تقسيمهم الوقت من خلالها. وما دار حول هذا الحديث وغيره من نقاشٍ دلّ على أنهم كانوا يستعملون هذا العدّ منذ زمن قديم، فيقولون: الساعة الأولى والثانية والثالثة… وهكذا.

ويؤيّد ذلك ما ذكره الواقديّ (ت 207هـ) في كتابه ‘فتوح الشام‘ من تحديد بالساعات لبداية ونهاية رحلة الصحابي عبد الله بن قُرط الأزدي (ت 56هـ) إلى المدينة، حين قدِم بكتاب من قائد جيوش الشام أبي عبيدة بن الجراح (ت 18هـ) يطلب فيه المدد من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (ت 23هـ) قـُبيل معركة اليرموك (وقعت سنة 15هـ). قال ابن قرط: “فركبت من اليرموك يوم الجمعة في الساعة العاشرة بعد العصر، وقد مضى من شهر ذي الحجة اثنا عشر يوما والقمر زائد النور؛ فوصلت يوم الجمعة في الساعة الخامسة والمسجد مملوء بالناس”.

المصدر:الجزيرة نت

زر الذهاب إلى الأعلى