اتقوا الله واتقوا ألسنة الشعراء (2) / محمدٌ ولد إشدو

إلى صديقي الشاعر الكبير سدوم ولد أيده، تلبية لدعوته التي غبت عنها بسبب وجودي خارج الوطن

واتقوا ألسنة الشعراء (أ)

ترى أي عفريت مارد هذا الذي نزغ بعضهم فكفّر وأهان ذؤابة مجتمعنا النبيلة المحترمة الوجيهة المصونة التي “يضاع لها العيال ولا تضاع”؟!

ولكن رب ضارة نافعة؛ فقد أتاح هذا الزيغ والتحدي الاجتماعي الصارخ فرصة ثمينة لجلْي اللبس، وإظهار المكانة الاجتماعية السامية التي تتمتع بها هذه الفئة الاجتماعية الكريمة، وما لها من مآثر وفضل عميم على المجتمع الموريتاني؛ فالموريتانيون – بخلاف غيرهم من البشر- لا يسمون المطرب مطربا ولا فنانا؛ بل يسمونه “شاعرا” لأن مجاله في مجتمعهم يتجاوز الفن والطرب ليشمل الأدب والشعر في أرقى مراتبهما؛ وخاصة الشعر الملحمي (اتهيدين) والتاريخ، وسدانة الأخلاق والمُثُل. فالشاعر (الفنان) عندهم يتربع على عرش الفتوة، مكونا سلطة ثالثة ذات مرجعية اجتماعية عليا تسمو أحيانا على السلطتين الزمنية والدينية. ومن أمثلة ذلك ما جرى يوم جوك، حين لم تُحَكّم إمارتا تگانت ولعصابه أيا من السلطتين فيما شجر بينهما؛ بل حكّمتا قول سدوم فيهما، فلم يتزحزح أي فارس منهما عن مكانته التي حدد له سدوم، حتى هلكوا جميعا ونفقت الغنيمة عن آخرها، فسمي اليوم أيضا “يوم التيدگيت” (اللحم المهروس) لأن سدوم قال ذلك فيما قال فيهما من مدح، ولا تمكن مخالفة قول سدوم.

فقد قال في إدوعيش:

اتْشِدُّو فِالْمَالْ أَهَــسْـــكَالْ ** نِحْلاَلْ أَهْلْ الْكَسْبْ إِظُوگُوهْ

مَا رَجْعُو بِاطْبَاگْ التُّيَالْ ** وامْشَاوْ انكَادَه مَا جَـــــبْرُوهْ.

وقال في أولاد امبارك:

صَاگَه تَكْعَمْ وِجْهْ الْحَذَّارْ ** وِاتْشـــــيلُ بِظْـــلاَلْ السِّلاَحْ

اُصَاگَه مَا تَحْــظَرْ فَنَفَّارْ ** غَــــــــزّي لَزَوَانْ الْبَــــرَّاحْ

اُصَاگَه مَا تِتْرَافِدْ تِـــذَّارْ ** فَاثْرْ الْكَسْبْ الْغَادِي مَا طَاحْ.

ولقَبُ “شاعر” الذي كان يطلقه مجتمعنا على الفنان هو أعظم وأكرم وأنبل وسام يقلده الموريتانيون لفرد أو مجموعة، بعد لقب “الفتى” فنحن – قبل كل شيء وبعده- “بلاد المليون شاعر”. والشواهد على هذه الخصوصية الاجتماعية (تسمية الفنان شاعرا) لا تعد ولا تحصى، ومنها – على سبيل المثال لا الحصر- في أدبنا الشعبي قول الفتى الشيخ سيدي عبد الله ولد الشيخ المهدي في مولاي اسماعيل ولد اباشه:

تَخْبَطْ غَوْرَاسْ ابْلاَ انــزَاعْ ** جِبْتُ واتْجِيبْ اجْنَاسُ

اُشَاعِرْ غَيْرَكْ فِالْحَگْ گاعْ ** رَابِطْ رَاصِي غَوْرَاسُ.

وقول الفتى الشيخ السالك ولد الحاج أحمد في أحمد ولد بَوْبَّ جدو:

… وَاخْبَطْ لِلْبُلْهْ ولِلتَّرْهــاج ** وَاخْبَطْ لِلْمَوْضِعْ لاَ تِعْوَاجْ

عَن بَلْ الْمَوْضِعْ وِلْ الْحَاجْ ** مَخْلُوقْ امْسَگَّمْ مِنْ لَقْلاَلْ

يِخْتَيْرْ الِّ لاَهِي يِتْــــــحَاجْ ** مِن شُعَّارْ إِوَاسِيكْ افْصَالْ.

وقول الشاعر الكبير المختار السالم ولد محمد لعلي (المُوزْعِيَّه عَلَمًا) في مدح الشيخ محمد عبد الحي:

… والشُّعَّار إيجُو اُلِحْرَكَاتْ ** بِيهُمْ كُرْمُو يَفِرْحُول.

وقول آخر مفضلا بعض الفنانين على بعض:

فِالْهَوْلْ اعْرَفْنَا صِيفِتْكُم ** مَا فِيــــــكُم مَاهُ نُوّارَ

الشُّعْرَه مَاهُمْ كِيــــفِتْكُمْ ** وانتُومَه كِيفْ الشُّعَارَ.

ومثله في الفصيح كثير.. كقول الفتى البيضاوي باشا في “الشاعر” العظيم امحمد ولد انگذي (الأعور عَلَمًا):

لعمري لقد خضتُ القرى من كُناكري**وجاوزت أرض الصين بعد الجزائر

وبالمغرب الأقصى دياري وجيرتي **وسامرت أرباب الغنا والمزامر

فما سمعت أذني ولا ناظري رأى ** كذا الأعور المشهور عن كل شاعر

.وقول فضيلة القاضي بيه ولد سليمان في “الشاعر” العظيم سيداتي ولد آبه:

أشاعر موريتاني أرَّقْت مقلتي ** وذكرتني عهد الصبى وشبابيا.

وتحظى فئة “الشُّعَّارْ” في مجتمعنا الشاعر باحترام مزدوج منبعه ما يقتضيه الدين والمروءة، وهما أخوان في عُرْفِنا. “رضيعا لبان ثدي أم تحالفا..” من وجوب إكرام كل ذي دين ومروءة لهم من جهة، وما تمتاز به تلكم الفئة من مآثر وخصال، وما لها من أياد بيضاء على المجتمع من جهة أخرى؛ إذ هي صانعة ثقافته وآدابه وفنونه، وحامية قيمه وأخلاقه النبيلة، ووعاء تاريخه ومعلمه الأول والأخير.

إذ ما من شك أنه ما كان ليوجد ويخلد ذكر “أولاد الفحفاح الظمان” لولا هذا الثالوث العظيم المؤسِّسُ لحضارة وقِيَم البيظان: اعلي انبيط ولد حيبللَّ، وسدوم ولد انجرتو، وسيد أحمد ولد آوليل.. وأقرانهم في الحوض والعصابه الذين يضيق المجال عن ذكرهم بالتفصيل. وما كان “أهل أعمر” لينتموا لقريش (أهل أعمر حسبتهم قريش) وتتكلم إمارتهم المرابطية الصنهاجية لغة مكة لولا “آبَّ اجَّيْ” وكذلك مجد إمارة و”حلة أولاد امحمد لِقْنَاتْ”!

وقد لعب سدوم الأصغر دورا عظيما مكملا لدوريْ الشيخ المختار ولد بونه ومحمد عبد الله ولد المبارك ولد يمين في إنشاء وتوطيد إمارة أهل عثمان ولد لفظيل (أحي من عثمان) ومن قبله كان أهل انغيميش وأهل أسيساح. كما لعب ادْرِيْدَلِّي ولد محمد عبد الله دورا مماثلا في إمارة مشظوف. وما كان ليكون لمملكة الترارزه (Royaume de trarza) بفرعيها شأن ويبقى لها ذكر خالد لولا أهل مانو وأقرانهم الفضلاء في بلاط تلك المملكة.. وهلم جرا. 

وهذه أمثلة ساطعة على ذلك:

فلقد كان “الكرس” يمثل لأهل هنون امبهدل قاعدة إمارتهم وأساس سلطانهم. وعند ما استتب الحكم لخطري ولد أعمر ولد اعلي بعد “قصاصه” لأخيه اعلي، جاء “شعَّار” الحوض يمدحونه، فقال لهم: إن أعظم ما ورثته عن أخي اعلي هو الكرس، فاعزفوا لي “بَتًّا” (لحنا) منه. فعزفوا له

“ولْ أَعْمَرْ ولْ اعْلِي ** لاَ دَوَّرْ فِيَّ دَيْنْ”..

وكذلك كانت “تفرغ زينه” و”انفاظه” لدى مشيخة أهل بُسيف ولد أحمد، و”انترش” و”اطْلِعْ الرَّسْلَه” لدى مشيخة أهل ازناگي، وگرْوْ اُگندَيْگه واَبَزَارْ..” لدى إمارة أولاد لغويزي، و”اطلِعْ الرَّسْلَه” الثانية لدى إمارة أهل لمحيميد، و”أُمْ ارْثَمْ” وغيرها لدى أهل أعمر، و”مِنْ عَافِيةْ أَحْمَد لِّمْحَمَّدْ”.. و”مِنْ هُونْ إلَ اكْدَ شِندْرَارْ..” لدى إمارة أهل عثمان ولد لفظيل.

وعندما أوصى الأمير الشاب ابراهيم والد ولد أعمر ولد المختار لِـامْحمد ولد الميداح (بَبَّ) بعطايا وافرة يوم غسرم، لم يكن يمارس سجية أميرية اتجاه “شاعر” عظيم فقط؛ بل كان أيضا يكافئ عبقريا ألّف له وعزف ضحى ذلك اليوم الفصل مائة “شور” في “اشْبَارْ فَاغُو” طريق “لِگْنَيْدِيَّه” العقيمة، كان خاتمتها “شور” رَزَّه (صاعقة) الذي يحلو على أنغامه “لعب كافره” أي الاستنان نحو العدو، حسب تعبير ذلك الفارس المؤسِّس.

وكانت “اتهيدينة غسرم” لِلْبُو ولد مانو هي القاعدة الصلبة التي رست عليها ذلك اليوم مملكة أهل أعمر ولد المختار بتحالفاتها وركائزها المذكورة بالتفصيل في تلك الملحمة.

زر الذهاب إلى الأعلى